الموت الرحيم ..
لقد كانَ يُدرك يومَ صرخ في رحمِ أمه أنَّ الأمرَ ليسَ هيناً غير ممكن, خارجٌ عن المألوف وهو العدم, هناك شيءٌ ما, يتساءل في نفسه ماذا كان ؟ وكيف أتيتُ إلى هنا ؟ ولماذا أنا ؟ هذي زخاتُ المطر تتساقط الآن ! كما كانت تتساقط على لوح الصفيح في هذي الغرفة التي وُلدْتُ بها قبلَ تسعين عاماً, يختلط صوتها الممزوج بضربات الزينقو مع صرخاتي التي لا أعرفُ إذا ما كانت ألماً أم أنها الإرادة المسلوبة ساعة الميلاد, وتلكَ النسوة كنَّ يزغردن بصوتهن الذي كان يصدح في باحة المنزل " ولد , ولد , ولد , كم أنتَ كريم يا الله " ويباركن لأمي وينهلن على أبي يطلبن منه العطايا والحَلَوانْ !
لقد كانَ أبي وحيداً لا إخوة له ولا أعمام ولم ينجب سوى أخي الأكبر وقد جئتُ بعده بعشرين سنة من أم ثانية وأخت ثالثة لزوجة ثالثة ! من كان يصدق أني سأعيش تسعين عاماً ؟ والكل كان يقول سيلحق بإخوته الثلاثة الذين أنجبتهم أمه وماتوا بعد أيام من ميلادهم , تلك الأيام وهؤلاء الإخوة الذين ماتوا كانوا سبباً بطلاق أمي وسبباً كي أعيش مشرداً بين منزل وشتات تتنوع فيه العذابات وتتلون معه الآهات ويزداد البأس كلما زاد بي السنُّ وتقدّم العمر وكبرت الحاجات والرغبات .
يومها لم أكن أفهم شيئاً ولا زلتُ كذلك غير مدرك لما هو أمامي ولا لما كانَ خلفي ! هذه التسعين عاماً لم تقدم فيَّ شيئاً ولم تؤخر, يا إلهي ! أينَ أين ؟ كلًّ الذين توقعوا هلاكي؟ والذين عاشوا بمثل سني كلهم قد ماتوا ! وها أنا موجودٌ على فراش الموت الذي يتجاهلني يوماً بعدَ آخر, عاجزٌ عن الحركة من أسر هذا السرير, يقيدني كسرٌ في قدمي وتكبلني هذه الأغطية رغم أنها تحميني من البرد, لعلِّي أفضلُ البردَ كلَّه على هذه القيود ! لعلَّ الحرية تستحق منا الاستغناء عن كلِّ شيء في سبيل الوجود !
تباً وألفُ تباً , هذه الحاجة تأتي على غير رغبة دوماً وبلا ميعاد, يا هذا, أنتم ؟ من هناك ؟ تعالَ يا هذا ! الحمد لله رغم أنك قد جئت متأخراً , ارفع عني هذه الثياب, ساعدني بقضاء الحاجة يرضى عنكَ الله, إنهُ العمرُ يا ولدي, كِبَرُ السنِّ يا بني, تلك العبرة من الحياة, لو كنتَ تعرف وغداً ستعرف كم هي الدنيا لعينة ! انظر لهذه الأرض واسألها كم مرة قلنا لها " اشتدي ما عليكِ قدِّي " وارقب حالنا الآن ! لا شيءَ سوى " خريفة " إنها مجرد قصة أرويها لكَ يا بُني !
قالَ جدي كلُّ هذا وأنا مرة غير مرة وحالي يتقلبُ بعدَ حال, أتساءل وأنا كثيرُ الأسئلة, لماذا ؟ لماذا ؟ لماذا ؟ هل أعيش مصيري مبكراً ؟ هل كُتب عليَّ أن أعيشه مرتين ! ثلاث ؟ الله أعلم ؟ . أكان هذا قدرُ البشرية جمعاء ؟ هل يكون في هذا تينٌ وزيتون ! وطور سنين ؟ ثمَّ رددناه أسفلَ سافلين ؟ وأجرٌ غير ممنون ! فليكن ما يكن, إنَّ اللهَ يكفِّر عني ذنوباً لستُ أعرفها, الحمد لله على كلِّ حال, إني إذ توكلت على الله مرة ومرة, تراجعني نفسي ألف مرة وتقول لي :كأنّك لا تعرف أنك مستخلفٌ على هذه الأرض, سيد قرارك مالك نفسك قادر على كلِّ شيء تحت أمرك, وإني على معرفة أن الله قسّم بيني وبين إرادته, لي ما شئتُ من أمري وله ما شاء منه , ولكن ما دامت إرادتي هنا حرة ! فلي أن أفكر وأن أقول وأفعل _ لكنّي على ثقة أن حروفي هنا خارجة عن إرادتي بعض الشيء _ كأن الإرادة الإلهية تشاركنا في كلِّ أمورنا وصراعنا مع النفس والشيطان ! هذه الحروف لم تسلم من وساوس أو رغبات في النفس, إني أعجز عن تحديد مصدرها ! فلا ميزان الخير والشر ينفع ولا مقياس الصواب والخطأ .. قل لي لماذا ؟ لماذا يبقيني اللهُ حياً هنا ؟ وهل أنا حيٌ فعلاً ؟ أم قبل ميلادي كانت الحياة ؟ من يدري إنها قد تكون بعد الموت كما كانت قبلَ الميلاد من لا شيء ؟ وإني أتوجه بسؤال كهذا وأنا عاجز حتى عن الإجابة لماذا أنا أكتب هنا ؟ ولماذا أتساءل من الأصل ؟
نادى جدي المتألم في فراشه, اذهبوا بي إلى المستشفى, أريدُ الطبيب, حالاً وإلا سأذهب بنفسي, يقول إنه سيذهب بنفسه ! ثم يطلب من أحدنا أن يلبسه ثياباً يخرج بها ولم يتحرك في فراشه, يعلو صراخه, فيهدأ بدواء مُسكّن, ثم يصر على الذهاب للمستشفى , إنها ليست المرة الأولى التي نذهب به إلى هناك, قبل عامين قال طبيب لطبيب آخر :" ألا ترى سنَّه ! زُق زُق " تلكَ الكلمة التي أثارت حنقاً بين أبناء عمي متسائلين هل يكون هذا طبيباً ؟ أم حانوتا ؟ إنه لا يستحق أياً من الصفتين ! رغم إساءة الطبيب في التعبير فقد كان قاصداً أنه لا مجالَ للعناية به أو حتى إعطائه درجة من الاهتمام, إنه يرى الموتَ أولى به ! جدي نفسه لا ينكر هذه الحقيقة, لعلّه يتمنى الموتَ أحياناً ويستعجله أحيانَ أخرى وغير ذلك فإنَّ جدي يتمتع بروح رهفة وشهية مفتوحة تسعدُ بالحياة, تراه مرة يطلب بسكويتاً أو تمراً وعصيراً أو كباب _ جدي مولع بالكباب مذ كانت زوجة أبيه تطعمه رملاً في فمه إذا ما نطق بالكلمة ذاتها .. كفٌ من الرمل مقابل كلمة " كباب " .
وأتساءل ألا يمكن للإنسان أن يضعَ حداً لعمره إذا طال ؟ تماماً مثلما يضع حداً لأي شيء ! ألا يكون الموتُ عادلاً للعاجزين حقاً واجباً لهم ؟ يريحهم من ألم الإعاقة ومشقة التفكير ؟ ؛ لكني أتراجع أمام هذه الفكرة التي قد تبدو منطقية؛ لأنَّ الرحمة ستكون غطاءاً للجريمة, ومن قال إن في الرحمة راحة ؟! ألا يكون الموتُ عذاباً لا ندركه ؟ ثم من الذي سيضمن الموتَ ما دمنا لا نضمن لأنفسنا الحياة ؟!
وبعد عامين تخللهما مجموع زيارات لعيادات وأطباء متخصصين كلهم قالوا: لا علاج ولا أمل !, أدهشتني هذه العبارة, لأول مرة أسمع " لا علاج ولا أمل " من لسان طبيب وأكثر ! في عادة الأمر يقولون " الله كريم, الأمل في وجه الله " هذه المرة لم يذكروا اللهَ حتى, أليس الله موجوداً هنا ؟ كما كانَ يوم ميلاد جدي والكلُّ كانَ يقول " سيلحق بإخوته الثلاث ويموت بعد يومين لا أكثر ! " لقد ماتوا جميعاً وعاشَ جدي رغم ذلك, كانوا يسخرون من مرضه ثم ماتوا ولم يمت !
-
15-12-2012 ..
لقد كانَ يُدرك يومَ صرخ في رحمِ أمه أنَّ الأمرَ ليسَ هيناً غير ممكن, خارجٌ عن المألوف وهو العدم, هناك شيءٌ ما, يتساءل في نفسه ماذا كان ؟ وكيف أتيتُ إلى هنا ؟ ولماذا أنا ؟ هذي زخاتُ المطر تتساقط الآن ! كما كانت تتساقط على لوح الصفيح في هذي الغرفة التي وُلدْتُ بها قبلَ تسعين عاماً, يختلط صوتها الممزوج بضربات الزينقو مع صرخاتي التي لا أعرفُ إذا ما كانت ألماً أم أنها الإرادة المسلوبة ساعة الميلاد, وتلكَ النسوة كنَّ يزغردن بصوتهن الذي كان يصدح في باحة المنزل " ولد , ولد , ولد , كم أنتَ كريم يا الله " ويباركن لأمي وينهلن على أبي يطلبن منه العطايا والحَلَوانْ !
لقد كانَ أبي وحيداً لا إخوة له ولا أعمام ولم ينجب سوى أخي الأكبر وقد جئتُ بعده بعشرين سنة من أم ثانية وأخت ثالثة لزوجة ثالثة ! من كان يصدق أني سأعيش تسعين عاماً ؟ والكل كان يقول سيلحق بإخوته الثلاثة الذين أنجبتهم أمه وماتوا بعد أيام من ميلادهم , تلك الأيام وهؤلاء الإخوة الذين ماتوا كانوا سبباً بطلاق أمي وسبباً كي أعيش مشرداً بين منزل وشتات تتنوع فيه العذابات وتتلون معه الآهات ويزداد البأس كلما زاد بي السنُّ وتقدّم العمر وكبرت الحاجات والرغبات .
يومها لم أكن أفهم شيئاً ولا زلتُ كذلك غير مدرك لما هو أمامي ولا لما كانَ خلفي ! هذه التسعين عاماً لم تقدم فيَّ شيئاً ولم تؤخر, يا إلهي ! أينَ أين ؟ كلًّ الذين توقعوا هلاكي؟ والذين عاشوا بمثل سني كلهم قد ماتوا ! وها أنا موجودٌ على فراش الموت الذي يتجاهلني يوماً بعدَ آخر, عاجزٌ عن الحركة من أسر هذا السرير, يقيدني كسرٌ في قدمي وتكبلني هذه الأغطية رغم أنها تحميني من البرد, لعلِّي أفضلُ البردَ كلَّه على هذه القيود ! لعلَّ الحرية تستحق منا الاستغناء عن كلِّ شيء في سبيل الوجود !
تباً وألفُ تباً , هذه الحاجة تأتي على غير رغبة دوماً وبلا ميعاد, يا هذا, أنتم ؟ من هناك ؟ تعالَ يا هذا ! الحمد لله رغم أنك قد جئت متأخراً , ارفع عني هذه الثياب, ساعدني بقضاء الحاجة يرضى عنكَ الله, إنهُ العمرُ يا ولدي, كِبَرُ السنِّ يا بني, تلك العبرة من الحياة, لو كنتَ تعرف وغداً ستعرف كم هي الدنيا لعينة ! انظر لهذه الأرض واسألها كم مرة قلنا لها " اشتدي ما عليكِ قدِّي " وارقب حالنا الآن ! لا شيءَ سوى " خريفة " إنها مجرد قصة أرويها لكَ يا بُني !
قالَ جدي كلُّ هذا وأنا مرة غير مرة وحالي يتقلبُ بعدَ حال, أتساءل وأنا كثيرُ الأسئلة, لماذا ؟ لماذا ؟ لماذا ؟ هل أعيش مصيري مبكراً ؟ هل كُتب عليَّ أن أعيشه مرتين ! ثلاث ؟ الله أعلم ؟ . أكان هذا قدرُ البشرية جمعاء ؟ هل يكون في هذا تينٌ وزيتون ! وطور سنين ؟ ثمَّ رددناه أسفلَ سافلين ؟ وأجرٌ غير ممنون ! فليكن ما يكن, إنَّ اللهَ يكفِّر عني ذنوباً لستُ أعرفها, الحمد لله على كلِّ حال, إني إذ توكلت على الله مرة ومرة, تراجعني نفسي ألف مرة وتقول لي :كأنّك لا تعرف أنك مستخلفٌ على هذه الأرض, سيد قرارك مالك نفسك قادر على كلِّ شيء تحت أمرك, وإني على معرفة أن الله قسّم بيني وبين إرادته, لي ما شئتُ من أمري وله ما شاء منه , ولكن ما دامت إرادتي هنا حرة ! فلي أن أفكر وأن أقول وأفعل _ لكنّي على ثقة أن حروفي هنا خارجة عن إرادتي بعض الشيء _ كأن الإرادة الإلهية تشاركنا في كلِّ أمورنا وصراعنا مع النفس والشيطان ! هذه الحروف لم تسلم من وساوس أو رغبات في النفس, إني أعجز عن تحديد مصدرها ! فلا ميزان الخير والشر ينفع ولا مقياس الصواب والخطأ .. قل لي لماذا ؟ لماذا يبقيني اللهُ حياً هنا ؟ وهل أنا حيٌ فعلاً ؟ أم قبل ميلادي كانت الحياة ؟ من يدري إنها قد تكون بعد الموت كما كانت قبلَ الميلاد من لا شيء ؟ وإني أتوجه بسؤال كهذا وأنا عاجز حتى عن الإجابة لماذا أنا أكتب هنا ؟ ولماذا أتساءل من الأصل ؟
نادى جدي المتألم في فراشه, اذهبوا بي إلى المستشفى, أريدُ الطبيب, حالاً وإلا سأذهب بنفسي, يقول إنه سيذهب بنفسه ! ثم يطلب من أحدنا أن يلبسه ثياباً يخرج بها ولم يتحرك في فراشه, يعلو صراخه, فيهدأ بدواء مُسكّن, ثم يصر على الذهاب للمستشفى , إنها ليست المرة الأولى التي نذهب به إلى هناك, قبل عامين قال طبيب لطبيب آخر :" ألا ترى سنَّه ! زُق زُق " تلكَ الكلمة التي أثارت حنقاً بين أبناء عمي متسائلين هل يكون هذا طبيباً ؟ أم حانوتا ؟ إنه لا يستحق أياً من الصفتين ! رغم إساءة الطبيب في التعبير فقد كان قاصداً أنه لا مجالَ للعناية به أو حتى إعطائه درجة من الاهتمام, إنه يرى الموتَ أولى به ! جدي نفسه لا ينكر هذه الحقيقة, لعلّه يتمنى الموتَ أحياناً ويستعجله أحيانَ أخرى وغير ذلك فإنَّ جدي يتمتع بروح رهفة وشهية مفتوحة تسعدُ بالحياة, تراه مرة يطلب بسكويتاً أو تمراً وعصيراً أو كباب _ جدي مولع بالكباب مذ كانت زوجة أبيه تطعمه رملاً في فمه إذا ما نطق بالكلمة ذاتها .. كفٌ من الرمل مقابل كلمة " كباب " .
وأتساءل ألا يمكن للإنسان أن يضعَ حداً لعمره إذا طال ؟ تماماً مثلما يضع حداً لأي شيء ! ألا يكون الموتُ عادلاً للعاجزين حقاً واجباً لهم ؟ يريحهم من ألم الإعاقة ومشقة التفكير ؟ ؛ لكني أتراجع أمام هذه الفكرة التي قد تبدو منطقية؛ لأنَّ الرحمة ستكون غطاءاً للجريمة, ومن قال إن في الرحمة راحة ؟! ألا يكون الموتُ عذاباً لا ندركه ؟ ثم من الذي سيضمن الموتَ ما دمنا لا نضمن لأنفسنا الحياة ؟!
وبعد عامين تخللهما مجموع زيارات لعيادات وأطباء متخصصين كلهم قالوا: لا علاج ولا أمل !, أدهشتني هذه العبارة, لأول مرة أسمع " لا علاج ولا أمل " من لسان طبيب وأكثر ! في عادة الأمر يقولون " الله كريم, الأمل في وجه الله " هذه المرة لم يذكروا اللهَ حتى, أليس الله موجوداً هنا ؟ كما كانَ يوم ميلاد جدي والكلُّ كانَ يقول " سيلحق بإخوته الثلاث ويموت بعد يومين لا أكثر ! " لقد ماتوا جميعاً وعاشَ جدي رغم ذلك, كانوا يسخرون من مرضه ثم ماتوا ولم يمت !
-
15-12-2012 ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق