الآن يفارقنا
ها
هُمْ يرفعونَ عني الأجهزة, الآنَ يتوقفُ النبضُ وهذا النَفَسُ المصنوعْ , وذا
الطبيبُ يغطي وجهيَ دونَ ارتباكٍ أو حتى قشعريرةٍ كالتي أصابتني حالَ سمعتُ الخبرْ,
يقولُ بيُسْرٍ لذويَّ : الله يرحمه ,
البقية في حياتكم ..
علا
الصراخُ صالةَ الاستقبالْ, وهُمْ ينظرونَ إليَّ على سريرِ المرضى ذاهباً إلى ثلاجةِ
الموتى, تلكَ الثلاجةُ ذاتُ الشهيقِ والزفيرِ المرعبْ, هناكَ خمسةٌ مثلي لم
يتجاوزوا الثلاثينَ مِنَ العمرِ ورجلٌ تخطى به العمرُ مائة سنة, وعجوزٌ لم تنجبْ
إلا شقاءَ خمسٍ وخمسينَ سنةٍ, لا أولادَ لها !.
جضر
جميعُ الأهل إلى المشفى والدموعُ تغرقُ عيونهم, والنساءُ يلطمنَ خدودهنَّ ويصرخنَ من
هول الفقد وألم الموقف , كأني رأيتُ هذا من قبل؛ لكني لا أتذكرُ, أينَ ومتىْ وكيفَ
؟ إنه الموقفُ ذاته !, هذه أمي تصرخُ عليَّ وتلطمُ وجهَهَا وتمزقُ ثيابيَ وتغسلُ
وجهيَ بدموعها .
كنتُ
أعلمُ أنها لنْ تسمعني, ولا أحداً منهم يقدرُ على ذلك, ها قد أعادوني مرة أخرى إلى
الثلاجة, وأنا أشعرُ بتآكلٍ في جسدي, شيءٌ ما غريبٌ يمشي على جلدي, آآه لا أستطيعُ
تحريكَ يدي ولا دفعه عني ! ما أقسى هذا البرد, يا ويحكم من أذنَ لكم بإدخالي هنا
؟! أنتم أيها الجيران , مذ متى وأنتم هنا ؟ أنتم لا تجيبون أيضاً ! ويلاه . ما
الذي يحدث هنا ؟ أنت أيها الطبيب مرة أخرى ؟ إلى أين تأخذني هذه المرة ؟. إنهم يمشون
بي إلى منزلِ والدتي, ثم أدخلوا عليَّ
رجلاً ما رأيته من قبل, ذا لحية بيضاء ووجهٍ مبتسم , أمسكَ الماءَ بيديه وأخذَ
يغسلني بطريقةٍ ما تشبهُ الوضوء, وألبسني ثوباً أبيضَ, لا نقشَ فيهِ ولا لونْ, ها هم
أقربائي وأصحابي يلقون علي نظرتهم الأخيرة ويودعون جسداً كان حياً قبل الآن, ودموعُ
أعينهم تنهالُ على وجهي .
لم
يسمعوني وأنا أقول لهم كفى بالله عليكم وأهزأ من حالهم هذا, حال الذين لا بدَّ لاحقين
بي عاجلاً أم آجلاً, كما كنا من طين نعود إلى الطينْ , حملني بعضهم إلى سرير خشبي,
وساروا بي إلى أمثالي السابقين , الآن منهم أنا, دون مرض ولا علة , دون سقم ولا
سبب, من يدري أن هذا كان موعدي وقدري المؤجل المحتوم !, أدهشني عددُ القبور في هذه
البريِّة , يا إلهي ! كلُ هؤلاء قد ماتوا ! كلهم قد عاشوا مثلي ؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق