الجمعة، 20 ديسمبر 2013

خُرِّيفة .. سرد قصير عن حياة جدِّي الحاج أبو أحمد صيام



خُرِّيفة .. سرد قصير عن حياة جدِّي الحاج أبو أحمد صيام .. 
-----

أذكرُ الآن لماذا كان أبي يخفي دمعته على أبيه ويداري وجهه في الحائط بعيداً عن الناس, رأيته ينظر للحائط وعيناه محمرّتان من الحزن, هل كان يدرك شيئاً لا أعرفه ! كدموعي التي سالت في إثره ولم أعرف هل كانت دموعاً عابرة أم أن أثير الأبوة ينتقل في الأولاد بعيداً عن قوانين فيزيائية أو ميتافيزيقية, هل لأنه لم يحتمل أن يرى أباه الذي لطالما حملَه في حضنه بين ذراعيه ممداً على سرير يحمله ممرضان إلى سيارة الإسعاف قبل عشر سنوات, إنها المرةُ الأولى التي يحتاج فيها جدّي إلى هذه السيارة, وقد كان يركبُ دونَها حمارَه إمّا على بردعة أو راكباً العربة المشدودة فيه وكانت سبباً في كسر قدمه، يقول الأطباء أنّ جدّي البالغ حينها 82 عاماً يحتاج إلى مسمار بلاتين في قدمِه اليسرى, هذا المسمار كان الأولُ في نعشِه.
   
لم يستطع بعدَها فلاحة أرضه واستغنى حينها عن حماره الذي باعه عمّي انتقاماً من فعلته, وجدي كان حزيناً على حماره أكثر من حزنه على الكسر, ولم يكن يكترث لصرخات جدتي وصيحاتها التي تحذره تارة من الذهاب للأرض والعمل فيها وتدعوه تارة أخرى للاسترخاء والراحة بدلاً من أداء الصلاة في جماعة، لكنّه ليس من النوع الذي يستكين للألم مهما كان, أذكر أن حماراً من ذوات اللون الأسمر التي كان يفضلها على غيرها من الحمير رغم شراستها قد عضّ إبهامه وكاد أن يقطعه وتعامل جدي مع الموقف ببساطة الفلاح الفلسطيني الذي يداوي كلَّ جروحِه بطين أرضه, جدي يلف أصبعه المقطوع بالطين والقماش !
    
جدتي التي تزوجها جدّي عن أخيه الأكبر بعد وفاته, أنجبت له أربعة ذكور منهم أبي وابنتين, كانَ يحبُّها لأنّها أم الأولاد وقد عاشَ جدّي حياته مشرداً مع زوجة الأب فاقداً لحنان الأم وحيداً من الإخوة والأعمام وأبناء العم, لم يحمل اسمَ العائلة سواه, يحمدُ الله دائماً على نعمة الأولاد ويؤكد أن الله الزارع ويكرر على مسامعنا مراراً :"ازرعوا ونحن الزارعون", يحدثُنا عن المراهنة التي خسرَ فيها أخوه الأرض وكيف استعادها جدّي بالكد والتعب وكان يستطيع بالثمن الذي استرجعها به أن يشتري أرضاً تجاورها بمساحة مضاعفة؛ لكنّه كان يعرف الطين التي خرج منها فلا يفارقه ! 
     
لم يكتمل العام الأول من زمن الكسر حتى بدأت جرافات الاحتلال تنهش البيارة وتهضم شجرات الزيتون فتأخذ سطراً وتترك بقية تتسلى بها في الأعوام التالية, أرادوا اختبار صبره الذي لا ينفد, على مهلٍ أراد الله أن يمتحنه بقبض روحِ جدّتي, قل إنها لم تستطع إلى الحياة سبيلاً, كل هذا لم يكن يعني لجدّي شيئاً, الشيء المهم فقط ألا يخسر الصلاة في جماعة ولمّا كان المسجدُ بعيداً عن المنزل, كان يكتفي بصلاة الجمعة في المسجد حتى شاء الله أن يكون بجوار منزله مسجداً قريباً يذهبُ إليه مستنداً على عكازه .
    
ذهبت سنةٌ أخرى وأخذت معها من العافية الكثير, لم يعد جدي يقوى على عكازة واحدة فاستند على اثنتين لأداء فروضه الخمسة حاضراً في المسجد, وانحنى ظهرُه فالتجأ للكرسي يتكئ عليه ويزحف به إلى المسجد كلَّ صلاة, أثناء عودتنا من صلاة الفجر كان يشير برأسه إلى المنازل المحيطة ويقول الميتون هؤلاء الذين لا يحضرون الفجر في جماعة, ويتساءل ما الذي يمنعهم من الصلاة وقد أعطاهم الله صحة ومالا ؟ ويشير إلى نفسه: "أي أنا العجوز اجيت أصلي, ول عليهم ول" ويقص لنا جدي قصصاً ويذكر أحاديث عن فضلها وثوابها قائلاً:" ركعتي الفجر خير من الدنيا وما فيها".
       
واستمرت العلاقة بينه وبين المسجد والكرسي مدة تزيد عن الخمس سنوات, كانَ للاحتلال فيها جولات على بيّارته فلم يبقِ فيها حتى حرب العام 2008 شجرة واحدة إلا وصارت أشلاءً توزعت من أول الأرض حتى آخرها, كان المحتلُّ يرسم لوحة من العذاب وخاتمة السوء؛ لكنّ صبرُ جدّي لم ينفد ولم تنهكه السنون وكان كثيرَ السؤال عن الأرض التي امتنع عن رؤيتها بعد خبر التجريف إلى حين, ولم يمتنع عن الاطمئنان على أحوالها, يسأل عن أخي حمادة الذي تعهّد رزقَه منها, ليس ضرورياً أن تكونَ الأرضُ مرزوعة بالأشجار المعمرة في نظره؛ لكنّ المهم أن تكون منتجة ذات نفع للعائلة.
                           
بعد عامين لم يعد جدّي قادراً على الذهاب بنفسه إلى المسجد, فاستغنى عن العكاكيز والكرسي وصار له كرسياً متحركاً على عجلين يحتاج لمن يساعده بالحركة, وكان يقضي حاجاته الأساسية في غرفته "الزينقو" وينادي على أحدٍ منا كلَّ صلاة يوصله إلى المسجد ويشجعنا بالقول: "من يعمل مثقال ذرة خيراً يره, ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره" لم تكن الآية ذات التأثير الكبير في أنفسنا بالقدر الذي جُبلنا فيه على حبِّ جدي وخدمته, هي قربى لله سبحانه وإيمان ورثناه من الرجل العجوز جسداً والشب روحاً وقلباً وإيماناً.
              
واشتدّ برد العام 2011 كما اشتدت رياحُ التغيير فيه على الأنظمة العربية, جدّي كان أحد المتضررين أيضاً, لم يحتمل البرودة وطلب للمرة الأولى في حياته مغادرة الغرفة التي عاش فيها طوال حياته ولم يغادرها إلا بعد سبع سنوات من وفاة جدتي, لم يغادرها في الوقت الذي هجر فيه الناسُ منازلهم إبان حرب الخليج الثانية والمشهورة بـ"حرب صدام" ولم يغادرها في حرب الرصاص المصبوب رغم كل المحاولات في المرتين لإقناعه للاحتماء من قدر الله بقدر الله, كانت عقيدته "المكتوب على الجبين لازم تراه العين" لا أعرف هل كان يقرأ المكتوب على جبينه فيطمئِن ؟
                 
يحدّثني أخي الكبير عن محاولاته مع أبي لإقناع جدّي بالحج, لكنّه كثيراً ما كان يؤجل الأمر ويقول لم يأن الأوان بعد, حتى جاء العام 1994, فنادى عليهما وقال لهما بعد إغلاق باب التسجيل للحج ذاك العام, أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قد جاءه في الرؤيا وقال له :"ما بدك تزورني ؟", أجاب جدّي النداء ووكل أبي بالأمر وتضيف عمّتي أن موعد سفر الحجيج قد تأجل عن موعده لأربعة أيام كانت كافية لالتحاق جدي بركب الحجيج لذاك العام برفقة جدتي ومن طريف الأمر أن الأقارب كانوا ينتظرون جدي للتسليم عليه بعد حجه أمام المنزل ووصلت جدتي دونَه, فاستغرب الجمعُ وتساءلو عن مكانه !
                 
الحق أنّ أمراً ما دون الصلاة لم يكن يعني لجدّي أي شيء, حتى أنه جاء من الحج تاركاً زوجته وما معها لأداء الصلاة في المسجد على وقتها, ولم يكن ذا اهتمام بالمناسبات الاجتماعية إلا قليلا, وأذكر أنّ خمسة من إخوتي تزوجوا ولم يحضر أيّ من حفلاتهم, رغم سعادته الكبيرة عند سماع خبر خطبة أحد أو أنّ أحداً قد جاءَه مولود فيذكر كيف كان وحيداً وقد منّ الله عليه بالمال والبنين .. في أيامه الأخيرة يجيبني أنه راضٍ بنعمة الله عليه حامداً لله شاكراً له .   
            
كان يجاور جدي في المسكن والعمر والمسجد والمسكن الحاج  أبو كامل المغني وقد تُوفي هذا العام ويجاورهما الحاج طراد محيسن أبو كمال, وقد توفّاه الله قبل جدّي بشهرين وقبلُهما ارتحلَ الحاج أبو رضى العمراني وزوجته, لكنّ منية جدّي حانت بعد وفاة الأقرب منه رحماً وجغرافيا, الحاجة رايقة سعد, لم تكن يفصلُها عن جدّي أي بناء إلا بضعُ أمتار وحدُّ من ألواح الزينقو المهترئ, أدرك جدّي بعدها أنّ منيته قد اقتربت على أساس العمر والجغرافيا وأصرّ على المشاركة في عزائها والذهاب رغم مرضه إلى بيت العزاء.
                 
بالتزامن مع حفلِ زفافٍ جديد بالعائلة لابن عمّي رائد, قرر جدّي العودة إلى منزلنا بعد غياب ستة أشهر عنه في منزل عمّي, قضى قبلَها ستة أشهر في منزلنا بعد كسر آخر أصاب قدمَه ولم يعد بعدها يقدر على أي شكل من أشكال الحركة, مقعداً في سريره مصراً كلَّ الإصرار على أداء فرض الصلاة في جماعة, اقتنع بعد محاولات بأن الله لا يحمل نفساً إلا وسعها, فصلى في المنزل عدا الجمعة لم يغب عن المسجد ولو مرة فيما أذكر, كان جدي سعيداً بخبر خطية ابني عمّيّ محمد ورياض وكان يسألهما العجلة في مراسم الزفاف .   
                  
من الطريف ذكرُه أن جدي عندما خطب أمي لأبي, استعجل الزفاف وأراده قبل رمضان من عامه, لكنّ والدَ أمي رفض ذلك وقال الزفاف يكون بعد العيد, وبعد خلاف بينهما على التأجيل والتعجيل. استردّ جدي المهر وألغى العقد ! إلى أن تداركته جدتي وصبّرته وأعادت المهر إلى أهل أميْ وكنتُ أنا, الذي يكتب هنا عن حياةٍ لم تعد إلا طيفاً من الذكريات, في الأرض يسوقنا الحمار ونضربُه فيسقط أحدنا عنه وتنكسر يدُه مثلي, عن حصاد القمح والشعير وغرس بذور البامية, عن حمل جالونات الماء إلى الأرض عن بركة الماء واكتمال الحلم .
                     
كان أسعدَ الأيام في حياته عندما خرجت الماء من أرضه, وقد قضى أكثر من 80 عاماً يحملها على حماره أو يشتريها من أحد الآبار البعيدة عن أرضه إما أن تصل متأخرة أو لا تصل ! قال حينها لأبي : الآن اكتمل حُلُميْ ! كيف لا يكون راضياً بما أعطاه الله إياه ؟ أو لم يقل: "ولسوف يعطيكَ ربُّك فترضى" ما أوفر حظَّه بالإيمان والرضى, صابراً على البلاء حامداً الله على النعمة. 
                     

إنها الأيام الأخيرة في حياته, كان يشعر بالوحشة ويحبُّ الحياة, يتفقّد أبناءَه وأحفادَه, يناديهم في جوف الليل بأسمائهم وبصوتٍ مرتفع وأسألُه ماذا تريدُ منهم ؟ فيقول: بتفقدهم ! وترجعُ به الذكرى وينادي كأنهم أمامَه ييقظهم للذهاب معه إلى الأرض: "بدكم تصحو ولا أجيكم بالعصاية ؟" أو "بدكم تقوموا ولا أجيب الميّة ؟"  ثم ينادي علياً ثلاثَ مرّات ! يستذكر حينَما كان يوصله عمي علي إلى المسجد على صلاة الفجر ويناديني باسمي إذا ما استفاق لحاجة يريدها ولم يكن كثير النومِ ليلاً لأنّه يقضي ساعات من النهار نائماً في سريره مقعداً فيه, يتراءى له أنّه لا زال بقوة الشباب يريدُ ملابسَه ويحاول النزول عن السرير ليثبت لنا أنّه قادر على فلاحة الأرض من جديد ومتابعة العمل فيه، ثم إذا استيأس أخذ بالملامة على رجله المكسورة .

   
يختصر جدّي حياته التي تجاوزت التسعين عاماً بمصطلح الخريفة, لا يكاد يحكي قصة إلا ويؤكد أنّ الحياة ما هي إلا "خُرّيفة" بمعنى حكاية يوردها في جملة واحدة: "زرعنا وحصدنا وعملنا وسوّينا وهاد الحياة خريفة", واشتدّ المرضُ بهِ إلى ليلِ الأحد الموافق 24-11-2013, حتى إذا أردنا أخذه من سريره في وقتٍ من الليل, قال: بدكم تموتوني ؟ سِتْكم راحت ع المستشفى وما رجعت !, فإذا تركناه, نادى على أبناء عمّي يأخذوه إلى المستشفى, وكان على موعدٍ مع موته !
                 
أنهى الطبيبُ اتصالاً مع زميل له على لقاء بينهما غداً من أجل النظر في حالة جدّي الصحية وإعداد تقرير يساعد في إحضار فرشة "هواء" طبية للحد من التقرحات التي ظهرت على جنبه الأيسر, جدّي يقول بعد تأخّر الأطباء عن مراجعة حالته وإعطائه الدواء: "حتى في الدكاترة ملناش بخت!"، وبعد تغيير ملابسه قال لنا مشيراً إلى فخذه: "الموت وصل إلى هنا"، ثم سأل عن أذان الظهر وقد تبقى له نصفُ ساعة من يوم الاثنين ويسألني: "شو رأيك توضّيني !" توضّأ مع الأذان وصلّى على سريره, وتناول ووجبة الغداء وأراد الأطباءُ تغيير موضع نومه على الجانب الأيمن, الأمر الذي آلمه كثيراً بسبب الكسر في رجله اليسرى ولم يحتملْ! 
   
    
 بعد دقائق يرجع بنا إلى نومته الأولى ع الجانب الأيسر من جسمه، ولا يحتمل أحدٌ منا ألمه فلا نعيد الكرّة ونتركه على حاله, الأسرة مجتمعة حولَ السرير في قسم الباطنة "الموت" بمستشفى الشفاء بمدينة غزة, ثلاث شهقات كانت كافية لمفارقة الروح للجسد، يقول الذين حضروا أنه سأل عمّتي عن أمّها "زوجته", وتوضح عمّتي أنّها كانت إشارة لرؤيته الأموات وافتقد زوجته فسأل عنها ! وتفسّر ذلك بأنّ جدّتي ترجع في الحياة الأخرى إلى زوجها الأول وتشرح لي أمراً لم أدركه حينها, حيث كان جدي يحركُ يده اليُمنى كأنه يصافحُ أحداً أو يسلّم عليه, فأمسِكُها وأسأله إذا كان بها ألم ! ؛لكنه كان يجيبني بالنفي . عمّتي تقول أنه كان يسلّم على الأمواتْ .! 
                    
لم يفقد وعيَه حتى آخر لحظة في حياته, ارتقت روحُه مع أذان العصر وزغردت أختُه الوحيدة أثناء توديعه، ودخلَ المقبرة مع أذان المغرب وأشهد أنّه دخل حفرة القبر مع إقامة الصلاة, في مسير حياته كان يقترب المسجد منه حتى كانت أقرب المسافات بينه وبين المسجد في المقبرة.

الثلاثاء، 5 فبراير 2013

دائماً نعم ثمَّ تقولُ لي : لا



دائماً نعم ثمَّ تقولُ لي : لا

 قالوا: إن لكلِّ بداية نهاية ! وتحدثوا عن البدايات فأوجوزا: كل بداية صعبة ! وقيل: المهمُ أن تبدأ ؟ ولكن كيف ؟ ومتى تبدأ ؟ .

هذه الأسئلة راودتني في عامي الـ22 بحثاً عن إيجابات لها في بحر من الاختيارات, كانَ لازماً عليَّ فيها العودة إلى الماضي البعيد مروراً منه إلى حاضري الآن؛ لأكونَ قادراً على وضع قاعدة ما أنطلق منها إلى أكثر مراحل حياتي خطورة وجدية, أستحثُّ فيها ذاكرتي لتفرج عن مخزونها من الأحداث الهامة والمواقف المؤثرة والأفكار العالقة والموضوعات التي اختزنتها في مراحل أوزعها على ثلاث : 1- الخضوع 2- الاستقلال 3- الاندماج ..


أولاً: مرحلة الخضوع : وهي مرحلة يتشارك فيها معظم الناس- إن لم يكن كلهم – تحُدد لهم ما يجب عليهم من تصرفات وما ينبغي لهم من أفعال, وصولاً إلى حاجز الحلال المباح والحرام الممنوع!


في هذه المرحلة وأنا الطفل الهادئ المهذب الملتزم بقيم المجتمع وأخلاقياته في حدود ما يفرضه من محظورات في أسرة لا تلزم نفسَها أكثر من التوجيه والنصيحة, ومسجدٍ لا يكف عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومجتمع تتفاوت الأولويات عنده وتتماهى المحرمات ما بين الاتجار بالمخدرات والسلاح والرقص في الحفلات العامة على أنغام الموسيقى الصاخبة والنكات الجنسية والمغامرات البطولية, في غياب قانون ملزم سوى"العنترية والعائلية" في ظل ضعف للسلطة الحاكمة ونمو للحركات الإسلامية, بحمدِ الله كان لي فرصة النظر للكل من زاوية تفرضُ نفسها عليَّ لكي أكونَ جزءاً من حلقات تبارك في المسجد وأحيانَ أخرى في حفلاتٍ صاخبة هنا أو هناك, وأحد الزائرين لهذه " الغرزة" أو تلك والأطفال دائماً يستعمون ولا يشاركون ويشاهدون ولا يندمجون, تلكَ حكايتي !


وتعودُ بي الذاكرة لأسأل عن عدد الأشرطة التي كسرتها بعدَ خطبةٍ لشيخٍ يؤكد فيها حرمة الأغاني وكم من مسجل كان مصيره إلى فتات ! ومن يذكر حملات استبدال أشرطة الأغاني بالأناشيد ؟ والاختلاف حولَ شرعية العمليات الاستشهادية وحرمتها ! هل كانت انتحارية ؟ من يعلم كم من المسيرات التي شاركنا فيها لتعزية عائلة الشهيد فلان ! كم أثّر في طفولتنا مشهد أم نضال فرحات وهي تودع ابنها ؟ كم هتفنا في المدارس " تحية للكتائب عز الدين" كم استهزأنا بسرايا القدس وكم سخرنا من فتح الكافرة ! كم قلتُ إني من الغدِ سأصلي ليلة اجتياح " عائلة أبوهين " أين كانَ الشيطان حينها ؟ لماذا قررت أن أهجر الأغاني وألتزم الصلاة في المسجد ؟ هل تختفي الشياطين في حضرة الخوف !

تماماً مثلما تختفي هذه الأفكار في حضرة الآخرين ! وأنتَ تعرف رأي الاثنين في بعضهما وقد أسرّاه لك, رغم ذلك يبتسمان أمامك في لحظة جمعتكم صدفة وتضحكُ في نفسك وتستفسر ما الذي تغيّر ؟ هل لأنَّ الأفكار التي يتشربونها لا تنطبق في واقع المجتمع ؟ أم لأنَّ الباطل في حلقات التعبئة والإرشاد فقط ؟ لكل جماعة منهم منهجٌ ترى الأخرى على باطل أو قد ضلّت الحق !


ثانياً: الاستقلال: تحضرني الآن كلمة "مش فاضي" وأضحك الآن ! كثيراً ما تسببت لي هذه الكلمة بالمشكلات في محيط الأسرة ! وهي تعني أني غير مهتم ولا وقتَ عندي لأي نشاط عائلي أو عمل داخل الأسرة لا يعود بالنفع المباشر علي وحتى هذه مشكوك في أمرها إذ أنَّ أمي يرضى الله عنها تحمل همّها, لدرجة وصلتُ فيها إلى الحد الذي يكون المنزل فيه بقمة الفرح أو الحزن أو شجار وصلَ ذورته وأنا أمام شاشة الحاسوب أو في كتابي دونَ أي مبالاة أو اهتمام؛ لأنّ هذا الأمر لا يعنيني! وهذا على مستوى الحي والأصدقاء, على مبدأ " هذه مشكلتك لا مشكلتي" يالإضافة إلى تجنب المشاركة بأي أنشطة اجتماعية من زيارات أو مناسبات مثل حفلات الزفاف أو بيوت العزاء, وقد بدأت مرحلة انطواء بدءاً من الأول الثانوي وأذكر بعضاً من ملامحها وأسبابها أني تعرضتُ لمواقف شدّت تفكيري بشكل رهيب وسيطرت على ذهني دونَ حولٍ مني ولا قوة ! كانت من أهم أسبابها هذا العالم الجديد " الانترنت" بمختلف أشكاله, الشات, البالتوك, السكاي بي, الإلحاد والمعتقدات الدينية والمذاهب الفكرية ما بين علمانية وليبرالية وراديكالية أصولية, والأفلام الجنسية والعادة السرية التي كان البعض يتغنى بها في فصول الثانوية ويتعازم الأصدقاء عليها ويتفاخرون فيما بينهم, هذا ما جادت به الثانوية عليّ ! وصلَ الأمرُ أحياناً لإنكار وجودي وأسبابه, فكم من مرة قلتُ لأمي متسائلاً هل أنتِ أتيتِ بنا ؟ أم جاء بنا القدر !

هذا المخاض جعلني أكثر انجذاباً إلى ذاتي تزامناً مع المرحلة الجامعية والتي وسّعت مداركي, فكثيراً ما سمعتُ عن الشاب العاشق وفتاة الموضى والناس "الفري Free" وعن مخاطر الاختلاط وفوضى الانفلات, وكل هذه الأوصاف لم تكن تثير فيّ إلا الرغبة بالتجربة والاكتشاف ! وكانت فرصة لي أن أعرف هذا العالم المحفوف بالمخاطر وأن أتعرف عن قرب على كلِّ شيء؛ لأثّبت بعضاً من الأفكار التي ورثتها أو اكتبستها من محيطي الأول, وقررت حينها أن تكونَ التجربة هي الفصلُ والحكم دون أي افتراضات مسبقة, متنازلاً عن كل المبادئ التي عرفتها وكل المقاييس التي تعلمتُها ! لن أقولَ هذه بلا حجاب فهي بلا أخلاق والعكس كذلك, تلكم تجاربكم ولا تعنيني, من حقي أن أرى وأجرب ثم أفكر وأختار وأقول من بالنسبة لي على حق ومن على باطل ! لا يعنيني أنَّ مصافحة المرأة تنقض الوضوء ما دام المرء لا يصلي ! وقد استطعت في تجربتي هذه أن أكون على حياد تام واكتفيت بالمشاهدة والقياس !

حاولت التخلص من قيد الألوهية وإثبات الذات وإنكار الدين وترسيخ الواقع ونفي العادات والتقاليد والامتناع عن كل ما هو متوارث ! ولعلّي حاولتُ في جانب العادات والتقاليد ووضعتُ أفكاراً بديلة لتنظيم حياة المجتمع من ميلاد الإنسان حتى موته ! وراودتني أفكار مثل إلغاء بيوت العزاء وأن تتولى المشافي مهمة دفن الميت بعيداً عن أهله وأقربائه مثلاً, وفي قوانين الزواج لماذا لا تكون العلاقة حرة بين الذكر والأنثى طالما اجتمع بينهما شرطُ القبول ! لماذا يكون الطلاق نهاية حياة بدلاً من انطلاقة جديدة وتجربة نوعية للمطلقين ! لماذا يكون الزواج مصيري ؟ ألا يمكن أن يتزوج المرأ/ة مرة واثنتين وثلاث! ماذا يضر إذا تزوجا ولم ينسجما مع بعضهما أن يتطلقا ويجربا محاولة أخرى وأخرى ؟ وهل يكون الإنجاب للزوجين غالباً عن جهل أم تفكير ومصلحة ؟ ولماذا لا تكون العلاقات بينَ الناس قائمة على الصراحة والمكاشفة بدلاً من قانون المجاملات " أنا لا أكذب ولكني أتجمل" لماذا نخفي الحقائق عن بعضنا البعض ؟ لماذا لا نعترف بالواقع ؟ لماذا نتجنب الخوض في عيوبنا ونقصنا ! هل ندّعي الكمال ؟, كم كرهتُ هذه الأخيرة حيث يكون الكلام في وجود الشخص المقصود سلبياًً تماماً في حالة لم يكن موجودا !


ثالثاً: مرحلة الاندماج : لاحقاً " باتَ أمراً طبيعياً " 

الثلاثاء، 29 يناير 2013

كيف تصبح شريراً ؟ قصة قصيرة



كيف تصبح شريراً ؟!


كنتُ في زيارة على غير تخطيط مني ولا تفكير إلى مكتب العمل مقابل منتزه برشلونة, وبعد جولة بلا تصريح في أرجائه تفقدتُ فيها المكان متأملاً من إحدى نوافذه مدرسة للثانوية – بنات – فيها ملعبٌ واهتمام بالمرافق غير مسبوق في ذاكرتي التعليمية على مستوى المدارس التي تعلمتُ فيها, وتبادرت تساؤلاتٌ إلى ذهني حول المبالغ التي تتكلفها الدول من أجل التعليم, ما بين أبنية ومرافق ومعلمين وأثاث ! يقضي الطلبة مثلي أعوامهم ولا يعرفون قيمتها أو فوائدها بسبب أو بلاسبب !


هؤلاء وأنا منهم عاشوا تجربتهم التعليمية تلقائياً دونَ معرفة لماذا هم في المدرسة ؟ هل كان النجاحُ غايتهم أم كانوا ينجزون واجباتهم هروباً من غباء المدرسين وعُصِيِّهم ؟ تلك الثقافة لم تكن موجودة في شخصي, فلا أنا أحبُّ أن أكون الأنانيَ " الأول " ولا الكسول " الأخير ", إذا ما أحببت المدرس أبدعتُ في مادته وإذا ما خفته أيضاً أبدعتُ في مادته, أما إذا كان المدرسُ " ما بهش ولا بنش " لم يكن له منا إلا كلُّ البطش به والاستهزاء منه, تلكَ الطفولة البريئة التي في عامي هذا أحاول أن أسترجع بعضاً من صفاتها " بدي أصير شرير " والشرُّ الذي أعنيه أن تكونَ قادراً على أن تكونَ طبيعياً أكثر بدون خوفٍ أو تظاهر أو قيودٍ يفرضها المجتمع بعاداته وتقاليده أو الظروف بالمجهول منها والمتوقع, في عامي هذا سأكون أكثر جرأة على نفسي أولاً .


خرجتُ من زحمة المكان وحشد من الناس ينتظر, والموظفون يتحركون جيئة وذهاباً في روتين قاتل لا يعرفون وجهة لهم, ويممت إلى متنزه " برشلونة " القريب من المكان الخالي من الناس إلا قليل, فتاتان على مقعد في زاوية بعيدة وشاب على الناحية الأخرى يمسكُ جواله متصفحاً الفيسبوك لأنّ الكهرباء مقطوعة عن منزله وفي المنتزه شبكة عامة للانترنت قال لي هذا بعدما سألته, وأم تمسك طفلها على أرجوحة تلاعبه ويضحكان, ثم بالمشهد الذي كثيراً ما غضضت بصري عنه أمام التلفاز بحضرة العائلة وأحياناً من الخجل أغادر الغرفة إذا ما كان في المادة المعروضة بوادر توحي بقبلة قادمة ! أو أخذٍ بالأحضان, هذه الجرأة في نصي هذا لهي مقدمة للشر الذي أتحدث عنه في عامي هذا ! جميعنا شاهد أغنية لفيروز "نسيتها" والمشهدُ عالقٌ في ذاكرتي عن طالبة في الثانوية تلقي ورقة لشاب أحبته على زاوية الطريق !


 سمعتُ كثيراً عن تجارب قريبة مني ولم أصدق حينها ! هو المشهد ذاته يتكرر الآن أمام عيني ! شابٌ يجلس على مقعدٍ في زاوية الحديقة وبعد دقائق, تأتي فتاة تحمل كتبها المدرسية وتنظر بملء عينيها يميناً وشمالاً باحثة عن هدفها المنشود ! وأنا أتأملها من بعيد وأرقبُ ابتسامتها وهي تتجه صوبه – شعرتُ بالسعادة لأجلهما – وتأملتُ المشهدَ من بعيد حتى جاءَ طفلان إلى ملعب الحديقة وأنا جالسٌ على مدرجاته, يبحثان عن كرة, فجمعا اثنين من الشواكل كي يشتريا كرة بلاستيكية وأخفقا حتى وقت قريب, جاء بعدهما طفلان بدا عليهما اليُسر والرفاهية ومعهما كرة, وكانت مغامرة جديدة أن تلعب والخوف يملأ قلبك أن يسقط الجوال أو الكاميرا أو يتمزق البنطلون وهذا الأسوأ ! ولو أني كنتُ أفكرُ بعقليتي الطيبة ما كنتُ لألعبَ مع أطفال خوفاً من نظرة المجتمع واستهزائهم وسخريتهم !

الأشرار لا يكترثون بما يقول الناس ولا يهتمون لعرفٍ هناك أو عادة هنا, وهذا ما سأفعله بعد لحظات, تابعتُ اللعب مع الأطفال محاذراً من سقوط الجوال أو تمزق البنطلون ولي تجارب سابقة عملتُ جهدي كي لا تتكرر, فإذا بصاحب الفيسبوك يتشجع ليشاركنا اللعب بكرة القدم تارة وكرة السلة مرة أخرى حتى صارت الساعة الثانية بعد الظهر واضطررت للمغادرة ؛لكن !


جالت في ذهني فكرة شريرة, لماذا لا أذهب إلى الصديقين " الشاب والفتاة " هناك ! أسألهم وأستفسر عن أحوالهم وعن الطريقة التي اجتمعا بها وإن كانَ هناكَ تساؤلات تخيّب ظني وتفسد عليّ فكرتي ! ماذا لو كانا مخطوبين ؟ لو كانا قريبين ؟ لو كان هذا صحيحاً ما كانا ليجتمعا بهذه الطريقة ! إنها فرصة لي أحاول من خلالها أن أعرف أكثر وعن كثب ملامح هذه التجربة وأسبابها من خلال السؤال المباشر ! بدلاً من الخجل أمام التلفزيون أو إشاحة الوجه ساعة اللقاء أو غض البصر ؟ وفعلاً هجرتُ هذه التساؤلات وتركت التفكير في الأمر واتجهت ناحيتهما ووقفتُ على بعد مترين تقريباً وألقيتُ عليهما التحية وأشرتُ للشاب أن يأتي إليَّ لأقول له كلمة خشية أن أتسبب له بموقفٍ محرج أو مخافة أن يعتبرني من الأمن الداخلي, ثم عرفته على نفسي ليطمئن وأعطيته رقم جوالي رغبة مني بالتواصل معه !


لم تكن جرأتي " الشر في داخلي " كافية للخوض في تفاصيل أكثر خشية الإساءة لهما أو حذر إفساد الجو الذي لا أعلم كم من المحاولات والاتصالات والمواعدات حتى نجحا في اقتناص فرصة ذهبية للقاء في مجتمع كان محاظفاً كغزة ! هل قالت لأهلها إن عليها دروساً خصوصية وقد رأيتُه يقلّب صفحاتٍ من كتابها ! ثم فضّلتُ أن أتركهما على حالهما والابتسامة تملأ وجهي لما بدا في وجهيهما من البراءة وصدق المشاعر, وإذا بي أمشي على طريق المتنزه وطفلان بدا عليهما كل آيات الشر من وجوهٍ ممزقة وملابس توحي بحالة من الطيش والانفلات يسمعانِ أغانيَ صاخبة بألفاظ تخدش الحياء وهي ظاهرة جديدة بات الكبار والصغار يسمعون لها " يا بنت يا مزّة ". ثم نظرتُ إليهما وقد خارت كلُّ قوى الشر في داخلي وتمنيتُ لهما حياة سعيدة ..




السبت، 26 يناير 2013

الآن يفارقنا - قصة قصيرة / محمد صيام




الآن يفارقنا

 http://www10.0zz0.com/2013/01/26/17/421962676.jpg

ها هُمْ يرفعونَ عني الأجهزة, الآنَ يتوقفُ النبضُ وهذا النَفَسُ المصنوعْ , وذا الطبيبُ يغطي وجهيَ دونَ ارتباكٍ أو حتى قشعريرةٍ كالتي أصابتني حالَ سمعتُ الخبرْ,  يقولُ بيُسْرٍ لذويَّ : الله يرحمه , البقية في حياتكم ..

علا الصراخُ صالةَ الاستقبالْ, وهُمْ ينظرونَ إليَّ على سريرِ المرضى ذاهباً إلى ثلاجةِ الموتى, تلكَ الثلاجةُ ذاتُ الشهيقِ والزفيرِ المرعبْ, هناكَ خمسةٌ مثلي لم يتجاوزوا الثلاثينَ مِنَ العمرِ ورجلٌ تخطى به العمرُ مائة سنة, وعجوزٌ لم تنجبْ إلا شقاءَ خمسٍ وخمسينَ سنةٍ, لا أولادَ لها !.

جضر جميعُ الأهل إلى المشفى والدموعُ تغرقُ عيونهم, والنساءُ يلطمنَ خدودهنَّ ويصرخنَ من هول الفقد وألم الموقف , كأني رأيتُ هذا من قبل؛ لكني لا أتذكرُ, أينَ ومتىْ وكيفَ ؟ إنه الموقفُ ذاته !, هذه أمي تصرخُ عليَّ وتلطمُ وجهَهَا وتمزقُ ثيابيَ وتغسلُ وجهيَ بدموعها .

كنتُ أعلمُ أنها لنْ تسمعني, ولا أحداً منهم يقدرُ على ذلك, ها قد أعادوني مرة أخرى إلى الثلاجة, وأنا أشعرُ بتآكلٍ في جسدي, شيءٌ ما غريبٌ يمشي على جلدي, آآه لا أستطيعُ تحريكَ يدي ولا دفعه عني ! ما أقسى هذا البرد, يا ويحكم من أذنَ لكم بإدخالي هنا ؟! أنتم أيها الجيران , مذ متى وأنتم هنا ؟ أنتم لا تجيبون أيضاً ! ويلاه . ما الذي يحدث هنا ؟ أنت أيها الطبيب مرة أخرى ؟ إلى أين تأخذني هذه المرة ؟. إنهم يمشون بي إلى منزلِ والدتي,  ثم أدخلوا عليَّ رجلاً ما رأيته من قبل, ذا لحية بيضاء ووجهٍ مبتسم , أمسكَ الماءَ بيديه وأخذَ يغسلني بطريقةٍ ما تشبهُ الوضوء, وألبسني ثوباً أبيضَ, لا نقشَ فيهِ ولا لونْ, ها هم أقربائي وأصحابي يلقون علي نظرتهم الأخيرة ويودعون جسداً كان حياً قبل الآن, ودموعُ أعينهم تنهالُ على وجهي .

لم يسمعوني وأنا أقول لهم كفى بالله عليكم وأهزأ من حالهم هذا, حال الذين لا بدَّ لاحقين بي عاجلاً أم آجلاً, كما كنا من طين نعود إلى الطينْ , حملني بعضهم إلى سرير خشبي, وساروا بي إلى أمثالي السابقين , الآن منهم أنا, دون مرض ولا علة , دون سقم ولا سبب, من يدري أن هذا كان موعدي وقدري المؤجل المحتوم !, أدهشني عددُ القبور في هذه البريِّة , يا إلهي ! كلُ هؤلاء قد ماتوا ! كلهم قد عاشوا مثلي ؟