خُرِّيفة .. سرد قصير عن حياة جدِّي الحاج أبو أحمد صيام ..
-----
أذكرُ الآن لماذا كان أبي يخفي دمعته على أبيه ويداري وجهه في الحائط بعيداً عن الناس, رأيته ينظر للحائط وعيناه محمرّتان من الحزن, هل كان يدرك شيئاً لا أعرفه ! كدموعي التي سالت في إثره ولم أعرف هل كانت دموعاً عابرة أم أن أثير الأبوة ينتقل في الأولاد بعيداً عن قوانين فيزيائية أو ميتافيزيقية, هل لأنه لم يحتمل أن يرى أباه الذي لطالما حملَه في حضنه بين ذراعيه ممداً على سرير يحمله ممرضان إلى سيارة الإسعاف قبل عشر سنوات, إنها المرةُ الأولى التي يحتاج فيها جدّي إلى هذه السيارة, وقد كان يركبُ دونَها حمارَه إمّا على بردعة أو راكباً العربة المشدودة فيه وكانت سبباً في كسر قدمه، يقول الأطباء أنّ جدّي البالغ حينها 82 عاماً يحتاج إلى مسمار بلاتين في قدمِه اليسرى, هذا المسمار كان الأولُ في نعشِه.
لم يستطع بعدَها فلاحة أرضه واستغنى حينها عن حماره الذي باعه عمّي انتقاماً من فعلته, وجدي كان حزيناً على حماره أكثر من حزنه على الكسر, ولم يكن يكترث لصرخات جدتي وصيحاتها التي تحذره تارة من الذهاب للأرض والعمل فيها وتدعوه تارة أخرى للاسترخاء والراحة بدلاً من أداء الصلاة في جماعة، لكنّه ليس من النوع الذي يستكين للألم مهما كان, أذكر أن حماراً من ذوات اللون الأسمر التي كان يفضلها على غيرها من الحمير رغم شراستها قد عضّ إبهامه وكاد أن يقطعه وتعامل جدي مع الموقف ببساطة الفلاح الفلسطيني الذي يداوي كلَّ جروحِه بطين أرضه, جدي يلف أصبعه المقطوع بالطين والقماش !
جدتي
التي تزوجها جدّي عن أخيه الأكبر بعد وفاته, أنجبت له أربعة ذكور منهم أبي
وابنتين, كانَ يحبُّها لأنّها أم الأولاد وقد عاشَ جدّي حياته مشرداً مع زوجة الأب
فاقداً لحنان الأم وحيداً من الإخوة والأعمام وأبناء العم, لم يحمل اسمَ العائلة
سواه, يحمدُ الله دائماً على نعمة الأولاد ويؤكد أن الله الزارع ويكرر على مسامعنا
مراراً :"ازرعوا ونحن الزارعون", يحدثُنا عن المراهنة التي خسرَ فيها
أخوه الأرض وكيف استعادها جدّي بالكد والتعب وكان يستطيع بالثمن الذي استرجعها به أن
يشتري أرضاً تجاورها بمساحة مضاعفة؛ لكنّه كان يعرف الطين التي خرج منها فلا
يفارقه !
لم
يكتمل العام الأول من زمن الكسر حتى بدأت جرافات الاحتلال تنهش البيارة وتهضم شجرات
الزيتون فتأخذ سطراً وتترك بقية تتسلى بها في الأعوام التالية, أرادوا اختبار صبره
الذي لا ينفد, على مهلٍ أراد الله أن يمتحنه بقبض روحِ جدّتي, قل إنها لم تستطع
إلى الحياة سبيلاً, كل هذا لم يكن يعني لجدّي شيئاً, الشيء المهم فقط ألا يخسر
الصلاة في جماعة ولمّا كان المسجدُ بعيداً عن المنزل, كان يكتفي بصلاة الجمعة في
المسجد حتى شاء الله أن يكون بجوار منزله مسجداً قريباً يذهبُ إليه مستنداً على
عكازه .
ذهبت
سنةٌ أخرى وأخذت معها من العافية الكثير, لم يعد جدي يقوى على عكازة واحدة فاستند
على اثنتين لأداء فروضه الخمسة حاضراً في المسجد, وانحنى ظهرُه فالتجأ للكرسي يتكئ
عليه ويزحف به إلى المسجد كلَّ صلاة, أثناء عودتنا من صلاة الفجر كان يشير برأسه
إلى المنازل المحيطة ويقول الميتون هؤلاء الذين لا يحضرون الفجر في جماعة, ويتساءل
ما الذي يمنعهم من الصلاة وقد أعطاهم الله صحة ومالا ؟ ويشير إلى نفسه: "أي
أنا العجوز اجيت أصلي, ول عليهم ول" ويقص لنا جدي قصصاً ويذكر أحاديث عن
فضلها وثوابها قائلاً:" ركعتي الفجر خير من الدنيا وما فيها".
واستمرت
العلاقة بينه وبين المسجد والكرسي مدة تزيد عن الخمس سنوات, كانَ للاحتلال فيها
جولات على بيّارته فلم يبقِ فيها حتى حرب العام 2008 شجرة واحدة إلا وصارت أشلاءً
توزعت من أول الأرض حتى آخرها, كان المحتلُّ يرسم لوحة من العذاب وخاتمة السوء؛
لكنّ صبرُ جدّي لم ينفد ولم تنهكه السنون وكان كثيرَ السؤال عن الأرض التي امتنع
عن رؤيتها بعد خبر التجريف إلى حين, ولم يمتنع عن الاطمئنان على أحوالها, يسأل عن
أخي حمادة الذي تعهّد رزقَه منها, ليس ضرورياً أن تكونَ الأرضُ مرزوعة بالأشجار
المعمرة في نظره؛ لكنّ المهم أن تكون منتجة ذات نفع للعائلة.
بعد
عامين لم يعد جدّي قادراً على الذهاب بنفسه إلى المسجد, فاستغنى عن العكاكيز
والكرسي وصار له كرسياً متحركاً على عجلين يحتاج لمن يساعده بالحركة, وكان يقضي
حاجاته الأساسية في غرفته "الزينقو" وينادي على أحدٍ منا كلَّ صلاة
يوصله إلى المسجد ويشجعنا بالقول: "من يعمل مثقال ذرة خيراً يره, ومن يعمل
مثقال ذرة شراً يره" لم تكن الآية ذات التأثير الكبير في أنفسنا بالقدر الذي
جُبلنا فيه على حبِّ جدي وخدمته, هي قربى لله سبحانه وإيمان ورثناه من الرجل
العجوز جسداً والشب روحاً وقلباً وإيماناً.
واشتدّ
برد العام 2011 كما اشتدت رياحُ التغيير فيه على الأنظمة العربية, جدّي كان أحد
المتضررين أيضاً, لم يحتمل البرودة وطلب للمرة الأولى في حياته مغادرة الغرفة التي
عاش فيها طوال حياته ولم يغادرها إلا بعد سبع سنوات من وفاة جدتي, لم يغادرها في
الوقت الذي هجر فيه الناسُ منازلهم إبان حرب الخليج الثانية والمشهورة بـ"حرب
صدام" ولم يغادرها في حرب الرصاص المصبوب رغم كل المحاولات في المرتين
لإقناعه للاحتماء من قدر الله بقدر الله, كانت عقيدته "المكتوب على الجبين
لازم تراه العين" لا أعرف هل كان يقرأ المكتوب على جبينه فيطمئِن ؟
يحدّثني
أخي الكبير عن محاولاته مع أبي لإقناع جدّي بالحج, لكنّه كثيراً ما كان يؤجل الأمر
ويقول لم يأن الأوان بعد, حتى جاء العام 1994, فنادى عليهما وقال لهما بعد إغلاق
باب التسجيل للحج ذاك العام, أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قد جاءه في الرؤيا وقال
له :"ما بدك تزورني ؟", أجاب جدّي النداء ووكل أبي بالأمر وتضيف عمّتي
أن موعد سفر الحجيج قد تأجل عن موعده لأربعة أيام كانت كافية لالتحاق جدي بركب
الحجيج لذاك العام برفقة جدتي ومن طريف الأمر أن الأقارب كانوا ينتظرون جدي
للتسليم عليه بعد حجه أمام المنزل ووصلت جدتي دونَه, فاستغرب الجمعُ وتساءلو عن
مكانه !
الحق
أنّ أمراً ما دون الصلاة لم يكن يعني لجدّي أي شيء, حتى أنه جاء من الحج تاركاً
زوجته وما معها لأداء الصلاة في المسجد على وقتها, ولم يكن ذا اهتمام بالمناسبات
الاجتماعية إلا قليلا, وأذكر أنّ خمسة من إخوتي تزوجوا ولم يحضر أيّ من حفلاتهم,
رغم سعادته الكبيرة عند سماع خبر خطبة أحد أو أنّ أحداً قد جاءَه مولود فيذكر كيف
كان وحيداً وقد منّ الله عليه بالمال والبنين .. في أيامه الأخيرة يجيبني أنه راضٍ
بنعمة الله عليه حامداً لله شاكراً له .
كان
يجاور جدي في المسكن والعمر والمسجد والمسكن الحاج أبو كامل المغني وقد تُوفي هذا العام ويجاورهما
الحاج طراد محيسن أبو كمال, وقد توفّاه الله قبل جدّي بشهرين وقبلُهما ارتحلَ
الحاج أبو رضى العمراني وزوجته, لكنّ منية جدّي حانت بعد وفاة الأقرب منه رحماً وجغرافيا,
الحاجة رايقة سعد, لم تكن يفصلُها عن جدّي أي بناء إلا بضعُ أمتار وحدُّ من ألواح
الزينقو المهترئ, أدرك جدّي بعدها أنّ منيته قد اقتربت على أساس العمر والجغرافيا
وأصرّ على المشاركة في عزائها والذهاب رغم مرضه إلى بيت العزاء.
بالتزامن
مع حفلِ زفافٍ جديد بالعائلة لابن عمّي رائد, قرر جدّي العودة إلى منزلنا بعد غياب
ستة أشهر عنه في منزل عمّي, قضى قبلَها ستة أشهر في منزلنا بعد كسر آخر أصاب قدمَه
ولم يعد بعدها يقدر على أي شكل من أشكال الحركة, مقعداً في سريره مصراً كلَّ
الإصرار على أداء فرض الصلاة في جماعة, اقتنع بعد محاولات بأن الله لا يحمل نفساً
إلا وسعها, فصلى في المنزل عدا الجمعة لم يغب عن المسجد ولو مرة فيما أذكر, كان
جدي سعيداً بخبر خطية ابني عمّيّ محمد ورياض وكان يسألهما العجلة في مراسم الزفاف .
من
الطريف ذكرُه أن جدي عندما خطب أمي لأبي, استعجل الزفاف وأراده قبل رمضان من عامه,
لكنّ والدَ أمي رفض ذلك وقال الزفاف يكون بعد العيد, وبعد خلاف بينهما على التأجيل
والتعجيل. استردّ جدي المهر وألغى العقد ! إلى أن تداركته جدتي وصبّرته وأعادت
المهر إلى أهل أميْ وكنتُ أنا, الذي يكتب هنا عن حياةٍ لم تعد إلا طيفاً من
الذكريات, في الأرض يسوقنا الحمار ونضربُه فيسقط أحدنا عنه وتنكسر يدُه مثلي, عن
حصاد القمح والشعير وغرس بذور البامية, عن حمل جالونات الماء إلى الأرض عن بركة
الماء واكتمال الحلم .
كان
أسعدَ الأيام في حياته عندما خرجت الماء من أرضه, وقد قضى أكثر من 80 عاماً يحملها
على حماره أو يشتريها من أحد الآبار البعيدة عن أرضه إما أن تصل متأخرة أو لا تصل
! قال حينها لأبي : الآن اكتمل حُلُميْ ! كيف لا يكون راضياً بما أعطاه الله إياه
؟ أو لم يقل: "ولسوف يعطيكَ ربُّك فترضى" ما أوفر حظَّه بالإيمان
والرضى, صابراً على البلاء حامداً الله على النعمة.
إنها الأيام الأخيرة في حياته, كان يشعر بالوحشة ويحبُّ الحياة, يتفقّد أبناءَه وأحفادَه, يناديهم في جوف الليل بأسمائهم وبصوتٍ مرتفع وأسألُه ماذا تريدُ منهم ؟ فيقول: بتفقدهم ! وترجعُ به الذكرى وينادي كأنهم أمامَه ييقظهم للذهاب معه إلى الأرض: "بدكم تصحو ولا أجيكم بالعصاية ؟" أو "بدكم تقوموا ولا أجيب الميّة ؟" ثم ينادي علياً ثلاثَ مرّات ! يستذكر حينَما كان يوصله عمي علي إلى المسجد على صلاة الفجر ويناديني باسمي إذا ما استفاق لحاجة يريدها ولم يكن كثير النومِ ليلاً لأنّه يقضي ساعات من النهار نائماً في سريره مقعداً فيه, يتراءى له أنّه لا زال بقوة الشباب يريدُ ملابسَه ويحاول النزول عن السرير ليثبت لنا أنّه قادر على فلاحة الأرض من جديد ومتابعة العمل فيه، ثم إذا استيأس أخذ بالملامة على رجله المكسورة .
يختصر
جدّي حياته التي تجاوزت التسعين عاماً بمصطلح الخريفة, لا يكاد يحكي قصة إلا ويؤكد
أنّ الحياة ما هي إلا "خُرّيفة" بمعنى حكاية يوردها في جملة واحدة:
"زرعنا وحصدنا وعملنا وسوّينا وهاد الحياة خريفة", واشتدّ المرضُ بهِ إلى
ليلِ الأحد الموافق 24-11-2013, حتى إذا أردنا أخذه من سريره في وقتٍ من الليل,
قال: بدكم تموتوني ؟ سِتْكم راحت ع المستشفى وما رجعت !, فإذا تركناه, نادى على
أبناء عمّي يأخذوه إلى المستشفى, وكان على موعدٍ مع موته !
أنهى
الطبيبُ اتصالاً مع زميل له على لقاء بينهما غداً من أجل النظر في حالة جدّي
الصحية وإعداد تقرير يساعد في إحضار فرشة "هواء" طبية للحد من التقرحات
التي ظهرت على جنبه الأيسر, جدّي يقول بعد تأخّر الأطباء عن مراجعة حالته وإعطائه
الدواء: "حتى في الدكاترة ملناش بخت!"، وبعد تغيير ملابسه قال لنا
مشيراً إلى فخذه: "الموت وصل إلى هنا"، ثم سأل عن أذان الظهر وقد تبقى
له نصفُ ساعة من يوم الاثنين ويسألني: "شو رأيك توضّيني !" توضّأ مع الأذان
وصلّى على سريره, وتناول ووجبة الغداء وأراد الأطباءُ تغيير موضع نومه على الجانب
الأيمن, الأمر الذي آلمه كثيراً بسبب الكسر في رجله اليسرى ولم يحتملْ!
بعد دقائق يرجع بنا إلى نومته الأولى ع الجانب الأيسر من جسمه، ولا يحتمل أحدٌ منا ألمه فلا نعيد الكرّة ونتركه على حاله, الأسرة مجتمعة حولَ السرير في قسم الباطنة "الموت" بمستشفى الشفاء بمدينة غزة, ثلاث شهقات كانت كافية لمفارقة الروح للجسد، يقول الذين حضروا أنه سأل عمّتي عن أمّها "زوجته", وتوضح عمّتي أنّها كانت إشارة لرؤيته الأموات وافتقد زوجته فسأل عنها ! وتفسّر ذلك بأنّ جدّتي ترجع في الحياة الأخرى إلى زوجها الأول وتشرح لي أمراً لم أدركه حينها, حيث كان جدي يحركُ يده اليُمنى كأنه يصافحُ أحداً أو يسلّم عليه, فأمسِكُها وأسأله إذا كان بها ألم ! ؛لكنه كان يجيبني بالنفي . عمّتي تقول أنه كان يسلّم على الأمواتْ .!
بعد دقائق يرجع بنا إلى نومته الأولى ع الجانب الأيسر من جسمه، ولا يحتمل أحدٌ منا ألمه فلا نعيد الكرّة ونتركه على حاله, الأسرة مجتمعة حولَ السرير في قسم الباطنة "الموت" بمستشفى الشفاء بمدينة غزة, ثلاث شهقات كانت كافية لمفارقة الروح للجسد، يقول الذين حضروا أنه سأل عمّتي عن أمّها "زوجته", وتوضح عمّتي أنّها كانت إشارة لرؤيته الأموات وافتقد زوجته فسأل عنها ! وتفسّر ذلك بأنّ جدّتي ترجع في الحياة الأخرى إلى زوجها الأول وتشرح لي أمراً لم أدركه حينها, حيث كان جدي يحركُ يده اليُمنى كأنه يصافحُ أحداً أو يسلّم عليه, فأمسِكُها وأسأله إذا كان بها ألم ! ؛لكنه كان يجيبني بالنفي . عمّتي تقول أنه كان يسلّم على الأمواتْ .!
لم
يفقد وعيَه حتى آخر لحظة في حياته, ارتقت روحُه مع أذان العصر وزغردت أختُه
الوحيدة أثناء توديعه، ودخلَ المقبرة مع أذان المغرب وأشهد أنّه دخل حفرة القبر مع
إقامة الصلاة, في مسير حياته كان يقترب المسجد منه حتى كانت أقرب المسافات بينه
وبين المسجد في المقبرة.