دمعةٌ باردةٌ تحرقُ قلباً جافاً
دمعةٌ مفترسةٌ تتنكرُ بثيابِ البراءة
ما أقسى تلكَ الدمعة حينَ تراها تتسللُ في عينٍ عزيزةٍ على نفسك ولا تقدرُ على أن تمسَحَها بيدكَ فما تجدُ إلا عيناك تذرفان دموعاً لأنك لا تملكُ لها شيئاً.دموعُ البؤسِ واليأسِ والأسى , دموعُ الذلِ والمهان , كيفَ لا وهذه الدمعة هي دمعةُ أبيك ؟ كيف لا , وقد تكون دمعةُ امك ؟ كيف لا , وقد تكون دمعةُ اخيك ؟
ما أقسى أن تنظرَ للماءِ أمامك وانتَ عاجزٌ لا تقدرُ أن تشربها !
ما أقسى أن ترى الحياةَ تناديك وللا سبب تموتُ إنْ تقترب منها !
حينَ يطلبُ الإبنُ مِنْ والدِهِ مصروفاً بسيطاً والأبُ لا يملكُ شيئاً يُعطيه , فتراهُ يقولُ لهُ حينَ تعودُ مِنَ المدرسةِ أعطيكَ إياه لأنه لا فكةَ معي ( فكة = صرافة ) أي بعدما أصرفُ مما معي . والأبُ وقتها ينظرُ إلى نفسِه بكلِ احتقار وسخريةٍ مِنَ الحياةِ التي يعيش . ابني يطلبُ مالاً ولا أملك أيُ دنيا هذه !؟ أيُ حياة !؟ فترى دموعَه تنهمرُ لتحرقَ القلوبَ التي تراها . ما أقساها مِنْ دمعةٍ تتنكرُ بثيابِ البراءة !!!
حينَ يذهبُ الطفلُ في أولِ أيامِ الدراسةِ بثيابِ السنةِ الماضيةِ بثيابٍ شِبهُ مرقعةٍ بعدَ عراكٍ مَعْ والدتِه اعتراضاً منه على هذهِ الثيابِ فيقولُ لها فلانٌ ابنُ فلانْ اشترى كذا وكذا أما أنا !؟ فسرعانَ ما ترى دموعَ الأمِ تسيلُ على خديها وقلبُها يحترق. لما.؟ لأنها لا تملكُ شيئاً تمسحُ به دمعَ ابنِها ولا تقدرُ على صنعِ شئْ ,وحينَ يعودُ الطفلُ إلى البيتِ يريدُ أن يأكلَ , تأتي لهُ الأمُ متعسةً بشئٍ مِنَ الطعامِ المعتاد ( كالزعتر او...) فيقولُ لها آلُ فلانٍ أكلوا اليومَ كذا وصاحبي جاءَ للمدرسةِ ومعه كذا لما نحنُ لا ؟؟ فتقولُ له الأم وهي تداري دمعَ عينها وحرقةَ قلبها , حينَ يحصلُ أبوك على المالِ سأعملُ لكَ كلَ الذي تتمنى , فترى الطفلَ وقتها ابتهجَ فرحاً بما سمعْ ولو راقبتَ الأمَ وقتها كيفَ تحترقْ . لعلمتَ أنَّ الدمعَ سِكينٌ في عينِ مَنْ يراهُ .
أما الطفلُ فقدْ رضيَ بما قدْ وعدتهُ أمُه فتراهُ ذهبَ إلى المدرسةِ على أملِ الغدِ الجميل. تراهُ حِينَ وَصَلَ المدرسةَ استند على بابها ينظرُ على هذا وذاك فهذا بلباسٍ جديدٍ وذاك معهُ ما يأكلُه فينظر إلى نفسه أين هو ؟؟ لحظاتٍ إن راقبته سترى عينيه تحترقان فلا هو معه ولا أنت معك تعطيه فتبكيان سوياً ويبقى الدمع في النهاية المنتصر علينا ونحن المهزومون أمامَ قطارِ الحياةِ والذي لا رحمةَ فيه ولا شفقة .
حِينَ ترى شاباً عمرُهُ يتجاوزُ العشرين عاماً يحملُ شهادةً جامعيةً يعملُ عاملَ نظافةٍ ( الشغل مش عيب صحيح. لكن الحياة كرامة ولا حياة بلا كرامة !!) . تراهُ يضحي بحياته لما ؟ لأنه يريدُ أنْ يحيا . فأختُه مريضةٌ بحاجةٍ إلى العلاج والعلاجُ مكلفٌ ولا مالَ فما يصنع ؟ يبيعُ نفسَهُ وحياتَهُ وكرامتَهُ المداسة في مجتمعٍ عربيٍ لا يقدرُ معنى الانسانِ ولا حتى الإنسانية , حينَ تسألُه يجيبُك باكياً متظاهراً أنه مجنون على الأقل فهوَ لا يريدُ منكَ أنْ تعرفَه ولكنكَ لوْ دخلتَ إلى قلبِه لوجدتَ جهنمَ داخِلَه وقودُها نظراتُ الناسِ اليهِ , فهو بحاجةٍ الى المالِ ولا طريقَ سوى التي اختارَ علماً أنَّ بامكانهِ الاتجارَ بالمخدراتِ إلا أنه يتعففُ من ذلك مؤمناً أن الشافي هو الله . دموعُ عينيهِ تنهالُ منه مع كلِ نظرةٍ من الناسِ اليه ,ما ذنبه ؟؟ وحينما ترى رجلاً يبلغُ مِنَ العمرِ ما يقاربُ الستين عاماً يعملُ بنفسِ المجال , ما الذي يحوجه لذلك ؟؟
وأعظمُ مشهدٍ حينَ ترى شاباً يصبحُ طريدَ الرياح مسكنهُ زاويةُ كلِ شارعٍ يحملُ ما يستره من ملابسٍ وفراشٍ على كتفيهِ يتنقلُ بهم من مكانٍ لآخر فهو ضحيةُ الادمانِ والتي ما عالجها المجتمع وصار المجتمع يفتخر ببطولات أصحابها المزيفة , ترى دموع ذاك الشاب تحرق وجنتيه على أيام قد قضاها في ضياع وضياع . دموعٌ لا تعرفُ الشفقةَ ولا الرحمة متنكرةٌ في زيِ البراءةِ , وشاباً قَدْ عصفَ بأبيه الزمن عاشَ صغرَهُ فقيراً وكَبُرَ على فقرٍ في كوخٍ يُسمى مجازاً منزل , تطارده عقارب الساعة وأيام ٌ تتلو أيام وهو يبحث عن قوت أهله وعن حاله ونفسه , يحتل ذهنه أسئلة تحرمه النوم أيام (كيف أبني بيتا ولا مال وان وجد المال لا مواد بناء , كيف أوفر لأمي المريضة العلاج والقوت لأخوتي ؟ اااااااااااااه يا راسي !! , كيف سيكون مستقبلي ؟؟ ااااااه يا راسي !! من الغد سأبحث عن عمل , في عندكم شغل ؟ لا طردنا العمال اللي عنا , ااااه يا رجلي , في عندكم شغل ؟ بس نلاقي شغل لئلنا , آآآآآآه ايش هالدنيا المقرفة ؟؟ يااااا ربي ) . يعود للمنزل . يخرج من المنزل . يجلس على باب المنزل مع أصحابه ايش يا محمد مش ناوي تفرحنا صار لك سنتين خاطب ؟ اه ان شاء الله قريب ). يعود لغرفته البسيطة يراجع ما حدث طوال يومه فلا يجد إلا والدموع قد احتلت وجهه البائس المكتئب فتأتي امه المريضة تفتح عليه الباب بخفية خيفة ازعاجه فتراه يبكي فتعود لتغلق الباب وتتركه وحيدا لتذهب نفسها الى غرفتها لتصنع الذي يصنع , ويبقى البكاء سبيلها وسبيله .
بما تشعر حينما تنظر لأبيك أو أمك أو أخيك أو أختك وهم على فراش المرض يصارعونه وليس باستطاعتك إلا الدعاء لهم , وما تملك غير الدعاء ؟!
ما أقساها من دموع وما أظلمها من حياة
إلا أننا سنحياها بحلوها ومرها وسنمضي بها كأننا شمعةٌ نحترقُ لنزيحَ ظلمةَ الحياةِ , سنحيا لأجل الله فلا شئ في الحياة يستحق الحياة , سنحيا لأجل قَدَرٍ قُدِّرَ لنا أن نحياه , سنحياه كأننا ملوكٌ فلا شئ في الحياة ملك للحياة , سنحيا الفقر والغنى وسنحيا السعادة والفرح وسنحيا الحزن والأسى وسنرضى بما الله يرضاه.
بمفهوم آخر سنحيا بوصفة اخرى يجهلها الاخرون سنحيا, سنحيا بموتنا بآلامنا بكل ما تعرفه الحياة بأنه ليس حياة , سنحيا بكل ما ترضاه الحياة ان نحياه . إلا أننا لن نحيا بلا كرامة .... . فالكرامة لنا هي الحياة . ولا حياة الا بالحياة .
الى الذين يفكرون بالهجرة من بلادهم والى الذين يشكون الفقر لن تجدوا نعمة أعظم من أنكم ولدتم حيث شاء الله , فالُله هو الذي أرادكم هنا . فكروا لماذا خلقني الله ُهنا في هذا البيت بين هؤلاء الاخوة وهذا الاب وهذه الام لماذا هؤلاء هم أصحابي لما أنا اعرف هذا ولا أعرف ذاك لماذا خلقني الله ُفي أسوأ بيت في الدنيا لما انا ابن فلان؟ اللهُ أحنُ عليّ من أبي وأمي لما فعلَ هذا بي ؟ فكروا ما السبب واللهِ لتجدنَ الخيرَ فيما تغفل عنه أعينكم . تأملوا للحظة ستجدون أنكم أفضلُ الناس , واكرمُهم مكانة , فكروا للحظة ستعلمون كيف هي الحياة ولما هي الحياة وكم هي الحياة والى متى هي الحياة ؟؟؟
في أمان الله
2008
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق